هذه "دينا".. أعرفُها جيدًا، لم يكَد يمر يومٌ في الحرب خلال وجودي في رفح إلّا رأيتها فيه. طيّبة القلب، نقيّة، نشيطة وقويّة. تهدّم بيتها وتضرّر من القصف عدّة مراتٍ، وعندما غادرت رفح هربًا من القصف، وصلها لاحقًا خبر نسف البيت في مُخيّم يبنا. أعرفها، كما أعرف ابنتها "حلا"، الجميلة الوديعة، التي كُلما جاءت إلى بيت نزوحي تسأل أُمها، وهي الكفيفة، "وين عمّو مقداد؟". دينا لم تكُن سوى امرأة كادحة، تتعب لتحصل على لُقمة عيشها، هذه اللُغمة التي صارت مُغمّسةً بمرارة الأيام والدم. تفتخر بأنّها مُتعلمة، وأنها عملت طويلًا في مصر، فهي صاحبة الجنسية المصرية، لكنّ كلّ أحلامها انهارت هُناك فعادت إلى غزّة. هذه دينا.. اسمُها: دينا روبين جحيش. سلّمت عليَّ في اليوم الأخير، قبل مُغادرتنا رفح. أصرّت أن تمُد يدها بالسلام، وقالت "انتَ أخوي". سلّمت عليها بقلبٍ طيّب، وأنا أعلم أنّ أكثر الناس الذين يتضرّرون وتُصيبهم الحياة بنوائبها، هُم أولئك الذين يعيشون المعاناة أصلًا.. وكما يُقال "المصائب لا تأتي فُرادى". ودّعتها، وهي تضحك، وهي وأنا، وكُلنا نعلم، أننا نُساق إلى المجهول المؤلم. هذه دينا.. دينا التي أخجل أن أقول أنّني ساعدتُها كثيرًا، كي ترى ضحكة أطفالها، وقالت لي في كلمةٍ أخيرة "بالله ما تنسانا"، وكيف أنساكم؟ أراها فجأةً، في صورة أرسلها إليّ أحد الأصدقاء. أراها بعد أن فقدت والدها وشقيقها وزوج شقيقتها وعمّها، بينما أصيبت ابنتها إسراء برصاص الدبابات في قدمها. الآن يزيدُ الابتلاء ابتلائيْن. وقد أمرَ الله أن يكون لديها اثنين من ذوي الإعاقة: حلا التي تتمنّى أن تُشاهد الحياة من خلف عينيها السوداوين، وإسراء التي ستتمنّى المشي في شوارع رفح، وهي تلبسُ فستان عيد الفطر، كما رأيتها العيد الماضي. هذه دينا.. دينا امرأةٌ منّا، من شعبي، من دمي ومن لحمي، من أيامنا المخبوزة بالتعب والألم والكدّ، ومرارة النزوح.. دينا امرأةٌ فلسطينية.. من رفح.. لم ترزُقها الحياة امتيازات نساءِ العالم رزقتها أن تكون فلسطينية، ككلّ نسائنا. كيف ننسى يا دينا؟كيف ننسى يا أُختي؟

Source